الجهل بالشيء لا يُورث الاطمئنان له, بل
عادة ما يُورث لصاحبه القلق والتردّد و الخوف والاضطراب والرعب، كما هو
الحال في الطرقات المظلمة التي لم تُسلك من قبل فانّه إذا ما كُلّف البعض
منّا بالسير فيها فانّه سوف ينتابه الخوف والتردّد عادةً، ولا شكّ أنّ هذا
الخوف والتردّد ناشئان من الجهل بالطريق لا من مخاطره لأنّها بحسب الفرض
غير معلومة، وهذا الجهل ليس ذا مرتبة واحدة كما أنّ المعرفة ليست ذات
مرتبة واحدة، ومن هنا يتّضح لنا أنّ ذلك الخوف والتردّد سوف تختلف
مراتبهما بحسب اختلاف مراتب الجهل والمعرفة، فإنّ التناسب سوف يكون طردياً
وفي نفس الآن عكسياً ولكن من جهتين وزاويتين، فكلّما اشتدّت درجة الجهل
ازدادت درجة الخوف ــ طرداً ــ وقلّ الاطمئنان ــ عكسا ًــ ، وكلّما
ازدادت درجة المعرفة بالشيء ازداد الاطمئنان وقلّ الخوف.
ولأجل نكتة الجهل بالشيء تجد الأطفال يخافون كثيراً من الذهاب إلى الطبيب،
ويكرهون شرب الدواء كثيراً، وما ذلك إلاّ لأجل جهلهم بأهمّية الطبيب
والمصلحة المترتّبة على الذهاب إليه والفائدة المتوخّاة من شرب الدواء،
وأثره في دفع الآلام عنهم.
وهكذا الحال في موضوع الموت، فانّ من أعظم أسباب الخوف منه والكراهية له هو الجهل به وعدم الوقوف على حقيقتهِ.
إنّ التصوير الخاطئ الذي يحمله الإنسان للموت والصورة البشعة المرتكزة في
نفسه عنه تحمله على الخوف والكراهية للموت، حيث يجد الموت متناقضاً تماماً
مع ما فُطر عليه من حبّ للبقاء والخلود.
فالإنسان الجاهل يجمع المال الكثير ويكثر من الأولاد ظنّاً منه بتحصيل
الخلود أو تطويل فُسحة الحياة([1])، وهو يعلم في صميم ذاته أنّه لابدّ من
الموت.
يحاول أن يترجم بقاءه وخلوده بشتّى الوسائل لكنّه يرى الموت عائقاً يحجبه عن نوال بغيته، فتراه جزعاً حانقاً مبغضاً للموت.
ولعلّ النكتة الحقيقية في ذلك هو ذلك التوهّم الفاسد والتفسير الخاطئ من
كون الموت نهايةً لحياة الإنسان وإعداماً لها!, مع أنّ الموت هو نهاية
للدنيا لا الحياة، وهو نافذة لمرحلة جديدة من البقاء هي الأكثر جودة وقوّة
وعظمة من ذلك البقاء النسبي المحدود جدّاً في الدنيا.
ولا يخفى على المطّلع من أنّ >الناس أعداء ما جهلوا<([2]) لأنهم لا
يحملون تصوّراً حقيقياً عن ذلك المجهول لديهم، وإلاّ فإنّهم مع الوقوف على
حقيقته سوف يجدوا أنفسهم مُذعنين ما لم يكونوا مُعاندين.
إنّ حقيقة الجهل الذي يقع فيه الإنسان يكمن في تشخيص مصداق البقاء،
فالإنسان نتيجة انغماسه بعالم المادة وتلوّثه بأدرانها ينقدح في ذهنه أنّ
مصداق البقاء هو هذه الحياة الدنيا مع أنّها دار فناء، ويغيب عن ذهنه
ومعتقده المصداق الحقيقي للبقاء، وهو الدار الآخرة.
فهو ربمّا يعتقد أنّ الإنسان مخلوق للبقاء ــ وهو الحقّ ــ ولكنّه يخلط
بين مصداق البقاء ومصداق الفناء، فاذا ما وقف على حقيقة الأمر سوف تجده
مُندفعاً بقوّة نحو المصداق الفعلي لمطلوبه ومقصوده، ولذا فانّ كراهية
الموت سوف تكون منطقية ومبرّرة بالنسبة له لأنّه بحسب فهمه يأتيه بمصداق
الفناء، وإلاّ فانّه لو أدرك حقيقة الموت فانّه س وف لن يجد مُبرّر لذلك
النفور وتلك الكراهية، بل سوف يجد المقتضي للحبّ حاضراً ومُبرّراً فيندفع
نحو بُغيته ومُراده([3]).
عن الإمام الحسن العسكري× قال >دخل علي بن محمد× على مريض من أصحابه
وهو يبكي ويجزع من الموت، فقال له: يا عبد الله تخاف من الموت لأنّك لا
تعرفه، أرأيتك إذا اتّسخت وتقذّرت وتأذّيت من كثرة القذر والوسخ عليك
وأصابك قروح وجرب وعلمت أنّ الغسل في حمّام يُزيل ذلك كلّه، أما تريد أن
تدخله فتغسل ذلك عنك أو ما تكره أن لا تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال: بلى، يا
ابن رسول الله، قال: فذاك الموت هو ذلك الحمّام...< ([4]).
وعن الإمام محمد بن علي الجواد× حين سُئل عن علّة كراهية الموت فقال×:
>لأنّهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزّ وجلّ
لأحبوّه، ولعلموا أنّ الآخرى خير لهم من الدنيا..< ([5]).
ولا يُراد بالولي هنا خصوص المعصوم أو العارف السالك الواصل وإنمّا يُراد
به عنوان المؤمن، فمن كان مؤمناً فهو ولي لله تعالى بالمعنى اللغوي، أيّ
المحبّ لله تعالى والناصر له، وقد جاء تفسير الولي بالمؤمن صريحاً في قول
الإمام جعفر بن محمد الصادق× لمّا سُئل: هل يُكره المؤمن على قبض روحه؟
فقال×: >لا والله انّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند لك، فيقول
له ملك الموت: يا ولي الله! لا تجزع فوالذي بعث محمداً’ لأنا أبرّ بك
وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر...<([6])، حيث يقول
ملك الموت لذلك المؤمن: يا ولي الله لا تجزع.
وأمّا المؤمن فهو من آمن بالله تعالى وصدّق برسوله محمد بن عبد الله’ وسار
على نهج الثقلين، كتاب الله وأهل البيت^ المتمثّلين ببيت النبوة محمد وآله
الطاهرين، كما هو صريح حديث الثقلين المتواتر والمروي من طرق
الفريقين([7]).
ومن الأسباب الاُخرى المورثة للخوف من الموت والكراهية له اقتراف الذنوب
والاستغراق في عالم المادة مع ندرة العمل الصالح، بعبارة اُخرى: الانغماس
في متاع الدنيا والابتعاد عن الآخرة.
عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق× قال >جاء رجل إلى أبي ذرّ
فقال: يا أبا ذرّ! مالنا نكره الموت؟ فقال: لأنّكم عمّرتم الدنيا وأخربتم
الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب، فقال ــ الرجل ــ: فكيف ترى
قدومنا على الله؟ فقال: أمّا المُحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله، وأمّا
المُسيء منكم فكالآبق([8]) يُردّ على مولاه...< ([9]).
ولا شك أنّ عمران الدنيا وخراب الآخرة مع الجهل بحقيقة الموت سوف يزيدان
من درجة الخوف والكراهية للموت، لا سيّما أولئك الذين رضوا بالحياة الدنيا
وزهدوا بالآخرة، حيث يجدون اُنسهم وكمالهم في عالم المادة والنقص، وما ذلك
إلاّ نتيجة الغفلة العارمة والحضور التامّ في مفردات النقص والمواد
الزائلة في قبال الغياب المطبق عن حقيقة هذا الوهم، وهذا هو التثاقل إلى
الأرض {...اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}([10])، أفسدوا الأرض بعد إصلاحها بإفساد
أنفسهم ويحسبون أنّهم مُصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}([11])، أوثقوا أنفسهم بأغلال النقص، ودسّوا
رؤوسهم في التراب، ووأدوا أنفسهم، ولكنّ الله تعالى سائلهم غداً عن ذلك
الوأد {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}([12])،
ولشدّة انغماسهم في ظلمات المادة والجهل تجدهم ينفرون من كلّ بارقة حقّ،
وما ذلك إلاّ لأنّهم أموات كأصحاب القبور {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ
فِي الْقُبُورِ}([13])، ورحم الله تعالى الشاعر كُثير عزّة حيث يقول([14]):
فل تبعد فكلْ فتىً سيأتي عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لابدّ يوم وإن بقيت تصير إلى نفادِ
لقد أسمعت لو ناديت حيّ ولكن ل حياة لمن تُنادي
ولو ناراً نفخت به أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ